الصراع على الرقائق- تنافس صيني أمريكي يُعيد تشكيل النظام العالمي
المؤلف: سلطان السعد القحطاني10.25.2025

يترقب العالم أجمع باهتمام بالغ الصراع الصيني الأمريكي المحتدم على عرش صناعة الرقائق الإلكترونية، حرب ضروس تتسم بالخفاء والتعقيد، إلا أنها تنطوي على أبعاد أعمق وأخطر مما يظهر للعيان. إنها بمثابة صدى خافت لصراع أوسع نطاقًا، صراع بين قوة عظمى هيمنت على العالم لعقود خلت، وقوة صاعدة تطمح إلى تبوأ مكانة مرموقة على خارطة العالم. إنها فصل جديد في سجل التنافس المحتدم بين البلدين، تنافس يرتكز بشكل أساسي على الصراع التكنولوجي والاقتصادي الذي قد يحدد مستقبل العالم بأسره.
ويُعد أحدث فصول هذا التنافس يتمثل في إدراك الولايات المتحدة للأهمية البالغة للرقائق، باعتبارها تقنيات حيوية للأمن القومي، إذ تدخل في صناعة كل شيء، بدءًا من الهواتف الذكية وصولًا إلى المعدات العسكرية المتطورة. وقد دفع هذا الإدراك الولايات المتحدة إلى فرض قيود صارمة على تصدير الرقائق المتقدمة والمعدات اللازمة لتصنيعها إلى الصين، بهدف إبطاء وتيرة تطور تكنولوجيا الرقائق المتقدمة في البلاد. وفي المقابل، تسعى الصين جاهدة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال الحيوي، وتطوير صناعتها المحلية للرقائق لتقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية، معتبرةً هذه القيود محاولة للحد من صعودها كقوة تكنولوجية عالمية.
وبين ثنايا هذا المشهد المعقد، يتجلى الهدف الأمريكي بوضوح تام، ألا وهو احتواء قوة عظمى صاعدة، قبل أن تتمكن من فرض واقعها الجديد على العالم. وتدور رحى هذا الصراع، بكل ما يحمله من تداعيات، في القارة الآسيوية، بينما يراقب العالم بقلق بالغ، خشية أن تؤدي الحسابات الخاطئة إلى تحويل هذا النزاع إلى اصطفاف عالمي جديد، وإلى حروب لا تنتهي.
وفي علم السياسة، يُعزى سعي دولة ما إلى تغيير النظام العالمي إلى رغبتها الجامحة في الحصول على نفوذ أوسع، انطلاقًا من قناعتها بأن النظام الحالي لا يتماشى مع حجمها وقوتها المتنامية. وهذا هو الشعور السائد في الصين، والذي لم يعد بالإمكان إخفاؤه. إن قارة آسيا تحمل في طياتها الإجابة الحاسمة عن السؤال الأهم الذي يشغل بال العالم، والذي قد يؤدي إلى حرب مدمرة تغير وجه الأرض. ففي هذه القارة، يمكن حسم مصير قوة الصين الحقيقية، أو محافظة أمريكا على هيمنتها الحالية. إنها قارة تتصارع فيها قوى كامنة، وقوى تطمح إلى احتلال مكانة تليق بحجمها وقوتها المتزايدة. وفي هذه القارة الصفراء تكمن الإجابة المنتظرة عن مستقبل النظام العالمي برمته، فهي قارة ديناميكية، تعج بالقوى المستعدة لخوض أدوار جديدة.
عندما نتأمل النموذج الصيني ونسقط عليه ما يُعرف في علم السياسة بأهم «عناصر قوة الدولة وبقائها»، نجدها متجسدة بكل تفاصيلها في الدولة الصينية. فمن أبرز علامات قوة أي دولة اقتصادها المتين، الذي يشهد نموًا متواصلًا، وإنتاجًا صناعيًا غزيرًا، واحتياطات نقدية ضخمة. وإلى جانب ذلك، تمتلك الصين قوة عسكرية هائلة واستقرارًا سياسيًا راسخًا، ودبلوماسية فعالة تسهم في تعزيز نفوذها الدولي، وقدرة فائقة على التكيف مع الأزمات. كما أنها تتمتع ببنية تحتية متطورة، ونظام تعليمي وصحي متقدم، وتفوق ملحوظ في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي.
لهذا السبب، تعتبر أمريكا أن الصين تمثل تهديدًا أخطر من روسيا، كونها تمثل تحديًا استراتيجيًا طويل الأمد، على عكس روسيا التي تعتبر تهديدًا إقليميًا بقدرات اقتصادية أقل تأثيرًا على الصعيد العالمي. لقد خبرت أمريكا الساحة الروسية منذ زمن بعيد، لكن الصين تمثل قصة أخرى أكثر تعقيدًا وتشابكًا.
وتنظر أمريكا إلى الصين باعتبارها تهديدًا استراتيجيًا أكبر من روسيا لعدة أسباب جوهرية؛ فهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتطمح جهارًا إلى تجاوز الاقتصاد الأمريكي، مما يمنحها نفوذًا عالميًا واسع النطاق. إضافة إلى ذلك، تستثمر الصين بكثافة في التكنولوجيا المتقدمة، مما يشكل تحديًا للهيمنة الأمريكية في هذه المجالات الحيوية. ويضاف إلى ذلك أن الصين تتبع سياسات توسعية، خاصة في آسيا (مثل بحر الصين الجنوبي)، وتسعى جاهدة لتعزيز نفوذها عبر مبادرة "الحزام والطريق"، مما يهدد مواقع النفوذ الأمريكي التقليدية. كما أن القدرات العسكرية المتنامية للجيش الصيني تثير قلق الولايات المتحدة، خاصة في منطقة المحيط الهادئ.
ويمكن للباحث المتعمق في العلاقات الدولية أن يرصد بسهولة دلائل التنافس الصيني الأمريكي المتصاعد، حيث تتصاعد النزاعات التجارية بين البلدين، ويحتدم التنافس على الهيمنة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، والجيل الخامس (5G)، وأشباه الموصلات. وتتزايد محاولات السيطرة الجيوسياسية من خلال النزاع المحتدم حول النفوذ في منطقة المحيط الهادئ، ولا سيما في بحر الصين الجنوبي وتايوان. ويتجسد التنافس الواضح بين البلدين أيضًا في حرصهما الدؤوب على تطوير قدراتهما العسكرية والنووية، والسعي الحثيث إلى كسب حلفاء جدد في شتى أنحاء العالم.
وفي آسيا، يتخذ التنافس أشكالًا متعددة؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين لتعزيز نفوذها الاقتصادي من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، تحاول أمريكا احتواء هذا النفوذ عبر إبرام اتفاقيات تجارية مع حلفائها في المنطقة. وبينما توسع الصين وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، تعزز الولايات المتحدة تحالفاتها العسكرية مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
ويحتدم التنافس بشدة حول الهيمنة على التكنولوجيا المتقدمة، مثل الجيل الخامس (5G) والذكاء الاصطناعي، حيث تسعى أمريكا إلى الحد من تقدم الشركات الصينية العملاقة مثل هواوي، بزرع العراقيل في طريقها وسن التشريعات المجحفة. ويتجلى التنافس الصيني الأمريكي أيضًا في مناطق مثل تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وشبه الجزيرة الكورية، حيث تدعم الولايات المتحدة حلفاءها وتعارض بشدة توسع النفوذ الصيني. وبينما تعزز الولايات المتحدة تحالفاتها مع دول مثل الهند واليابان وأستراليا (ضمن تحالف كواد)، تسعى الصين إلى توسيع نفوذها في دول جنوب شرق آسيا وباكستان.
وعلى الرغم من نفوذها الآسيوي القوي، تواجه الصين تعقيدات جمة مع جيرانها. فمع الهند، توجد نزاعات حدودية حادة في مناطق لداخ وأروناتشال براديش. وفي بحر الصين الجنوبي، تدور نزاعات محتدمة مع دول جنوب شرق آسيا (فيتنام والفلبين وماليزيا وبروناي) حول السيادة على جزر ومناطق بحرية، حيث تدعي الصين ملكيتها لأغلب مناطق البحر. وتعتبر الصين تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، بينما تعتبر تايوان نفسها دولة مستقلة ذات سيادة. وهناك نزاع مرير حول جزر سينكاكو/دياويو في بحر الصين الشرقي، حيث تدعي كل من الصين واليابان ملكيتهما للجزر.
وفي مواجهة هذا المشهد المتقلب باستمرار، تتحصن أمريكا بحلفاء أقوياء في آسيا، مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية والفلبين وتايوان. إنها كتلة آسيوية مؤثرة، وربما متنافرة في بعض الأحيان، إلا أن الخوف المشترك من طموحات الصين يقض مضاجعها ويوحد صفوفها.
وإلى البحر يتصاعد التنافس ويستمر بلا هوادة، فالصين تسيطر على العديد من الموانئ البحرية حول العالم، سواء بشكل مباشر أو من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية عبر مبادرة "الحزام والطرق". كما أنها تمتلك عددًا هائلاً من الموانئ الاستراتيجية الكبرى، مثل ميناء شنغهاي (أكبر ميناء في العالم)، وميناء نينغبو-تشوشان، وميناء شنتشن، وميناء قوانغتشو. أما الموانئ الخارجية، فمن المعلوم أن الصين تستثمر وتدير موانئ عدة في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.
وتشير بعض الدراسات إلى أن الصين لها نفوذ في أكثر من 100 ميناء حول العالم، من خلال استثمارات مباشرة أو عقود تأجير طويلة الأجل، وهذا ما يجعلها دولة ذات تأثير كبير في ممرات التجارة العالمية، على الرغم من أن هذا التوسع البحري قد يبدو أكبر من قدرة الصين على الحفاظ عليه. وعلى عكس منافسيها، ليس للصين تاريخ بحري عسكري عريق، إذا ما قورنت ببريطانيا وأمريكا. فقد ترك أسياد البحار الإنجليز بصماتهم في كل مكان منذ قرون مضت، وخاضوا معارك بحرية مصيرية، نظرًا لأن البحر كان وسيلة الوصل والاتصال الوحيدة لهم بالعالم في العصور الغابرة.
وفيما يعتقد كثيرون أن البحر سيكون نقطة ضعف الصين، وأفضل وسيلة لمحاصرتها، فإن إغلاق المنافذ البحرية الآسيوية في وجه الصين من قبل الغرب سيكون أمرًا بالغ التعقيد لأسباب عدة، من أهمها التعقيد الجغرافي. فالصين تمتلك العديد من الموانئ البحرية الهامة على سواحلها، مثل شنغهاي وشنتشن، وهذه المنافذ لا يمكن إغلاقها إلا بوسائل عسكرية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيد كبير أو نزاع مسلح. وكذلك، فإن الصين لاعب رئيسي في التجارة العالمية، وأي محاولة لعرقلة وصولها إلى الموانئ أو إغلاق المنافذ البحرية قد تؤثر سلبًا على الاقتصاد العالمي برمته، بما في ذلك الاقتصادات الغربية، والعالم أجمع، فلا يمكن أن نغفل حقيقة أن الصين هي مصنع العالم. ناهيك عن علاقاتها القوية مع دول آسيوية أخرى قد لا تتعاون مع الغرب في هذه الخطوة، فضلًا عن أن إغلاق هذه المنافذ قد يتعارض مع القوانين الدولية الخاصة بحرية الملاحة.
وبالمحصلة، تُعتبر الصين الدولة ذات النفوذ الأكبر في آسيا حاليًا، وذلك لأسباب عدة؛ فهي تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم والأكبر في آسيا، مما يمنحها تأثيرًا كبيرًا على التجارة والاستثمار في المنطقة. كما أنها تمتلك جيشًا قويًا، وتعمل على توسيع قدراتها العسكرية باستمرار، خاصة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، وهذا ما يجعل التحالف الأمريكي مع الهند واليابان ضروريًا للحد من النفوذ الصيني بكل الطرق والاتجاهات.
وفي مواجهة ذلك، تمتلك الولايات المتحدة العديد من القواعد العسكرية في آسيا، التي يقدر عددها بالعشرات، وتنتشر في دول رئيسية عدة. ففي اليابان وحدها، يوجد حوالي 23 قاعدة عسكرية أمريكية، منها قواعد جوية وبحرية رئيسية، مثل قاعدة يوكوسوكا البحرية وقاعدة كادينا الجوية في أوكيناوا. وفي كوريا الجنوبية، توجد حوالي 15 قاعدة أمريكية، بما في ذلك قاعدة كامب همفريز، وهي واحدة من أكبر القواعد الأمريكية خارج الولايات المتحدة. وكذلك توجد قواعد عسكرية أمريكية أقل عددًا في جزيرة غوام والفلبين وأستراليا وتايلاند.
وإن كانت القوى تكاد تتقارب، والفجوة تضيق باستمرار، إلا أن ما أسميه بـ "قوة البقاء" ما زال يرجح الكفة الأمريكية، على الأقل في المستقبل المنظور، نظرًا لتفوقها العسكري وقوة تحالفاتها، ومرونة نظامها السياسي الذي يمكنها من الثبات في عالم يشهد تغيرات مستمرة. كما أن النظام العالمي بشكله الحالي هو صناعة أمريكية بشكل مباشر أو غير مباشر، وازدهار العالم يعتمد بشكل كبير على استقرار هذه القوة العظمى، وعلى صيغتها الغربية لمفهوم العلاقات الدولية، التي قادت العالم بنجاح، وتمكنت من إزاحة جميع منافسيها.
ويُعد أحدث فصول هذا التنافس يتمثل في إدراك الولايات المتحدة للأهمية البالغة للرقائق، باعتبارها تقنيات حيوية للأمن القومي، إذ تدخل في صناعة كل شيء، بدءًا من الهواتف الذكية وصولًا إلى المعدات العسكرية المتطورة. وقد دفع هذا الإدراك الولايات المتحدة إلى فرض قيود صارمة على تصدير الرقائق المتقدمة والمعدات اللازمة لتصنيعها إلى الصين، بهدف إبطاء وتيرة تطور تكنولوجيا الرقائق المتقدمة في البلاد. وفي المقابل، تسعى الصين جاهدة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال الحيوي، وتطوير صناعتها المحلية للرقائق لتقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية، معتبرةً هذه القيود محاولة للحد من صعودها كقوة تكنولوجية عالمية.
وبين ثنايا هذا المشهد المعقد، يتجلى الهدف الأمريكي بوضوح تام، ألا وهو احتواء قوة عظمى صاعدة، قبل أن تتمكن من فرض واقعها الجديد على العالم. وتدور رحى هذا الصراع، بكل ما يحمله من تداعيات، في القارة الآسيوية، بينما يراقب العالم بقلق بالغ، خشية أن تؤدي الحسابات الخاطئة إلى تحويل هذا النزاع إلى اصطفاف عالمي جديد، وإلى حروب لا تنتهي.
وفي علم السياسة، يُعزى سعي دولة ما إلى تغيير النظام العالمي إلى رغبتها الجامحة في الحصول على نفوذ أوسع، انطلاقًا من قناعتها بأن النظام الحالي لا يتماشى مع حجمها وقوتها المتنامية. وهذا هو الشعور السائد في الصين، والذي لم يعد بالإمكان إخفاؤه. إن قارة آسيا تحمل في طياتها الإجابة الحاسمة عن السؤال الأهم الذي يشغل بال العالم، والذي قد يؤدي إلى حرب مدمرة تغير وجه الأرض. ففي هذه القارة، يمكن حسم مصير قوة الصين الحقيقية، أو محافظة أمريكا على هيمنتها الحالية. إنها قارة تتصارع فيها قوى كامنة، وقوى تطمح إلى احتلال مكانة تليق بحجمها وقوتها المتزايدة. وفي هذه القارة الصفراء تكمن الإجابة المنتظرة عن مستقبل النظام العالمي برمته، فهي قارة ديناميكية، تعج بالقوى المستعدة لخوض أدوار جديدة.
عندما نتأمل النموذج الصيني ونسقط عليه ما يُعرف في علم السياسة بأهم «عناصر قوة الدولة وبقائها»، نجدها متجسدة بكل تفاصيلها في الدولة الصينية. فمن أبرز علامات قوة أي دولة اقتصادها المتين، الذي يشهد نموًا متواصلًا، وإنتاجًا صناعيًا غزيرًا، واحتياطات نقدية ضخمة. وإلى جانب ذلك، تمتلك الصين قوة عسكرية هائلة واستقرارًا سياسيًا راسخًا، ودبلوماسية فعالة تسهم في تعزيز نفوذها الدولي، وقدرة فائقة على التكيف مع الأزمات. كما أنها تتمتع ببنية تحتية متطورة، ونظام تعليمي وصحي متقدم، وتفوق ملحوظ في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي.
لهذا السبب، تعتبر أمريكا أن الصين تمثل تهديدًا أخطر من روسيا، كونها تمثل تحديًا استراتيجيًا طويل الأمد، على عكس روسيا التي تعتبر تهديدًا إقليميًا بقدرات اقتصادية أقل تأثيرًا على الصعيد العالمي. لقد خبرت أمريكا الساحة الروسية منذ زمن بعيد، لكن الصين تمثل قصة أخرى أكثر تعقيدًا وتشابكًا.
وتنظر أمريكا إلى الصين باعتبارها تهديدًا استراتيجيًا أكبر من روسيا لعدة أسباب جوهرية؛ فهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتطمح جهارًا إلى تجاوز الاقتصاد الأمريكي، مما يمنحها نفوذًا عالميًا واسع النطاق. إضافة إلى ذلك، تستثمر الصين بكثافة في التكنولوجيا المتقدمة، مما يشكل تحديًا للهيمنة الأمريكية في هذه المجالات الحيوية. ويضاف إلى ذلك أن الصين تتبع سياسات توسعية، خاصة في آسيا (مثل بحر الصين الجنوبي)، وتسعى جاهدة لتعزيز نفوذها عبر مبادرة "الحزام والطريق"، مما يهدد مواقع النفوذ الأمريكي التقليدية. كما أن القدرات العسكرية المتنامية للجيش الصيني تثير قلق الولايات المتحدة، خاصة في منطقة المحيط الهادئ.
ويمكن للباحث المتعمق في العلاقات الدولية أن يرصد بسهولة دلائل التنافس الصيني الأمريكي المتصاعد، حيث تتصاعد النزاعات التجارية بين البلدين، ويحتدم التنافس على الهيمنة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، والجيل الخامس (5G)، وأشباه الموصلات. وتتزايد محاولات السيطرة الجيوسياسية من خلال النزاع المحتدم حول النفوذ في منطقة المحيط الهادئ، ولا سيما في بحر الصين الجنوبي وتايوان. ويتجسد التنافس الواضح بين البلدين أيضًا في حرصهما الدؤوب على تطوير قدراتهما العسكرية والنووية، والسعي الحثيث إلى كسب حلفاء جدد في شتى أنحاء العالم.
وفي آسيا، يتخذ التنافس أشكالًا متعددة؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين لتعزيز نفوذها الاقتصادي من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، تحاول أمريكا احتواء هذا النفوذ عبر إبرام اتفاقيات تجارية مع حلفائها في المنطقة. وبينما توسع الصين وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، تعزز الولايات المتحدة تحالفاتها العسكرية مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
ويحتدم التنافس بشدة حول الهيمنة على التكنولوجيا المتقدمة، مثل الجيل الخامس (5G) والذكاء الاصطناعي، حيث تسعى أمريكا إلى الحد من تقدم الشركات الصينية العملاقة مثل هواوي، بزرع العراقيل في طريقها وسن التشريعات المجحفة. ويتجلى التنافس الصيني الأمريكي أيضًا في مناطق مثل تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وشبه الجزيرة الكورية، حيث تدعم الولايات المتحدة حلفاءها وتعارض بشدة توسع النفوذ الصيني. وبينما تعزز الولايات المتحدة تحالفاتها مع دول مثل الهند واليابان وأستراليا (ضمن تحالف كواد)، تسعى الصين إلى توسيع نفوذها في دول جنوب شرق آسيا وباكستان.
وعلى الرغم من نفوذها الآسيوي القوي، تواجه الصين تعقيدات جمة مع جيرانها. فمع الهند، توجد نزاعات حدودية حادة في مناطق لداخ وأروناتشال براديش. وفي بحر الصين الجنوبي، تدور نزاعات محتدمة مع دول جنوب شرق آسيا (فيتنام والفلبين وماليزيا وبروناي) حول السيادة على جزر ومناطق بحرية، حيث تدعي الصين ملكيتها لأغلب مناطق البحر. وتعتبر الصين تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، بينما تعتبر تايوان نفسها دولة مستقلة ذات سيادة. وهناك نزاع مرير حول جزر سينكاكو/دياويو في بحر الصين الشرقي، حيث تدعي كل من الصين واليابان ملكيتهما للجزر.
وفي مواجهة هذا المشهد المتقلب باستمرار، تتحصن أمريكا بحلفاء أقوياء في آسيا، مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية والفلبين وتايوان. إنها كتلة آسيوية مؤثرة، وربما متنافرة في بعض الأحيان، إلا أن الخوف المشترك من طموحات الصين يقض مضاجعها ويوحد صفوفها.
وإلى البحر يتصاعد التنافس ويستمر بلا هوادة، فالصين تسيطر على العديد من الموانئ البحرية حول العالم، سواء بشكل مباشر أو من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية عبر مبادرة "الحزام والطرق". كما أنها تمتلك عددًا هائلاً من الموانئ الاستراتيجية الكبرى، مثل ميناء شنغهاي (أكبر ميناء في العالم)، وميناء نينغبو-تشوشان، وميناء شنتشن، وميناء قوانغتشو. أما الموانئ الخارجية، فمن المعلوم أن الصين تستثمر وتدير موانئ عدة في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.
وتشير بعض الدراسات إلى أن الصين لها نفوذ في أكثر من 100 ميناء حول العالم، من خلال استثمارات مباشرة أو عقود تأجير طويلة الأجل، وهذا ما يجعلها دولة ذات تأثير كبير في ممرات التجارة العالمية، على الرغم من أن هذا التوسع البحري قد يبدو أكبر من قدرة الصين على الحفاظ عليه. وعلى عكس منافسيها، ليس للصين تاريخ بحري عسكري عريق، إذا ما قورنت ببريطانيا وأمريكا. فقد ترك أسياد البحار الإنجليز بصماتهم في كل مكان منذ قرون مضت، وخاضوا معارك بحرية مصيرية، نظرًا لأن البحر كان وسيلة الوصل والاتصال الوحيدة لهم بالعالم في العصور الغابرة.
وفيما يعتقد كثيرون أن البحر سيكون نقطة ضعف الصين، وأفضل وسيلة لمحاصرتها، فإن إغلاق المنافذ البحرية الآسيوية في وجه الصين من قبل الغرب سيكون أمرًا بالغ التعقيد لأسباب عدة، من أهمها التعقيد الجغرافي. فالصين تمتلك العديد من الموانئ البحرية الهامة على سواحلها، مثل شنغهاي وشنتشن، وهذه المنافذ لا يمكن إغلاقها إلا بوسائل عسكرية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيد كبير أو نزاع مسلح. وكذلك، فإن الصين لاعب رئيسي في التجارة العالمية، وأي محاولة لعرقلة وصولها إلى الموانئ أو إغلاق المنافذ البحرية قد تؤثر سلبًا على الاقتصاد العالمي برمته، بما في ذلك الاقتصادات الغربية، والعالم أجمع، فلا يمكن أن نغفل حقيقة أن الصين هي مصنع العالم. ناهيك عن علاقاتها القوية مع دول آسيوية أخرى قد لا تتعاون مع الغرب في هذه الخطوة، فضلًا عن أن إغلاق هذه المنافذ قد يتعارض مع القوانين الدولية الخاصة بحرية الملاحة.
وبالمحصلة، تُعتبر الصين الدولة ذات النفوذ الأكبر في آسيا حاليًا، وذلك لأسباب عدة؛ فهي تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم والأكبر في آسيا، مما يمنحها تأثيرًا كبيرًا على التجارة والاستثمار في المنطقة. كما أنها تمتلك جيشًا قويًا، وتعمل على توسيع قدراتها العسكرية باستمرار، خاصة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، وهذا ما يجعل التحالف الأمريكي مع الهند واليابان ضروريًا للحد من النفوذ الصيني بكل الطرق والاتجاهات.
وفي مواجهة ذلك، تمتلك الولايات المتحدة العديد من القواعد العسكرية في آسيا، التي يقدر عددها بالعشرات، وتنتشر في دول رئيسية عدة. ففي اليابان وحدها، يوجد حوالي 23 قاعدة عسكرية أمريكية، منها قواعد جوية وبحرية رئيسية، مثل قاعدة يوكوسوكا البحرية وقاعدة كادينا الجوية في أوكيناوا. وفي كوريا الجنوبية، توجد حوالي 15 قاعدة أمريكية، بما في ذلك قاعدة كامب همفريز، وهي واحدة من أكبر القواعد الأمريكية خارج الولايات المتحدة. وكذلك توجد قواعد عسكرية أمريكية أقل عددًا في جزيرة غوام والفلبين وأستراليا وتايلاند.
وإن كانت القوى تكاد تتقارب، والفجوة تضيق باستمرار، إلا أن ما أسميه بـ "قوة البقاء" ما زال يرجح الكفة الأمريكية، على الأقل في المستقبل المنظور، نظرًا لتفوقها العسكري وقوة تحالفاتها، ومرونة نظامها السياسي الذي يمكنها من الثبات في عالم يشهد تغيرات مستمرة. كما أن النظام العالمي بشكله الحالي هو صناعة أمريكية بشكل مباشر أو غير مباشر، وازدهار العالم يعتمد بشكل كبير على استقرار هذه القوة العظمى، وعلى صيغتها الغربية لمفهوم العلاقات الدولية، التي قادت العالم بنجاح، وتمكنت من إزاحة جميع منافسيها.
